كان من السهل ان تغمض الدولة ومعها الحكومة أعينها تماما عن هذا الوضع المأساوي في ظاهرة البناء العشوائي، أو على الأقل تسير على نفس النهج الذي سارت عليه سائر الحكومات السابقة، على اعتبار أن هذا الملف شديد الحساسية والتعقيد معا، وبالتالي كان يمكن التفكير بنفس المنطق، ألا وهو تأجيل المواجهة من أجل كسب شعبية زائفة، دون النظر لخطورة هذا الأمر على مستقبل الأجيال القادمة، لاسيما وان الأزمة تتعلق في الأساس بقضية الأمن الغذائي، واستمرار الأوضاع بهذا الشكل يعني أن النتائج ستكون بالقطع كارثية ، خاصة مع فقدان آلاف وآلاف الأفدنة من أجود واخصب الاراضي الزراعية.
ويكفي أن نعرف، وفقا لما قدمه الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء في لقائه اليوم على أرض محافظة القليوبية بحضور كوكبة من الوزراء والاعلاميين أن مصر فقدت قرابة الـ 400 الف فدان من الارض الزراعي، منها 90 الفا فقط منذ عام 2011 وحتى الآن، كما زاد عدد العزب والنجوع والتوابع العشوائية على مستوى الجمهورية من 27 الفا الى 32 الفا، وهو ما يكشف ان لدينا 5 الاف كتلة تجمع عشوائي جديدة في عشر سنوات فقط، كما بلغ عدد المخالفات في أعقاب ثورة يناير 2 مليون مخالفة.
ولا شك ان هذه الارقام والاحصاءات صادمة في ظل التحديات التي تواجهها الدولة خلال المرحلة الراهنة، ومن هنا يمكن ان ندرك الاجابة عن السؤال الاهم في الشارع: “لماذا تتصدى الحكومة الآن وفي هذا التوقيت بالذات لمخالفات البناء”، والاجابة ببساطة ان استمرار الاوضاع على هذا النحو وفقا لهذه الاحصاءات يعني فناء الأرض الزراعية ، في الوقت الذي تصل فيه تكلفة استصلاح الفدان الواحد في الصحراء من 150 الى 200 الف جنيه، وبحسبة بسيطة اذا اردنا ان نعوض ما فقدناه فقط من ارض زراعية لاستصلاح مقابلها في الصحراء فهذا يعني اننا نحتاج الى 18 مليار جنيه، ولا شك أن استمرار الاوضاع على هذا النحو يعني اننا لن نستطيع أن نتقدم خطوة اخرى للامام مهما كان حجم الانجازات والمشروعات الجديدة، لكن بفضل الارادة السياسية بدأنا التصدي لهذه الظاهرة.
وهنا يمكن القول بأن الحكومة قد اختارت الطريق الأصعب، ألا وهو طريق المواجهة والحل الجذري لواحدة من اخطر واهم المشكلات التي تهدد مستقبل أمننا الغذائي وتقضي على آمال الأجيال المقبلة.
إن هذه الحكومة صادقة مع شعبها، تهدف لبناء دولة حقيقية، يكون كل بناء فيها على أسس علمية سليمة، لأن كل شبر من هذه الأرض الزراعية يمثل رصيدا حضاريا وإنسانيا لمصر ولأجيالنا المقبلة.
وعلينا أن ندرك ان الحكومة ليست في صراع مع المواطن وليس هدفها جمع الجباية، وإنما الهدف الاسمى هو تقنين الاوضاع بشكل رسمي لصالح المواطن ، لأن اتخاذ هذه الخطوة من شأنها أن ترفع قيمة أي عقار في مصر للضعف على الأقل ، فضلا عن وقف ظاهرة البناء العشوائي بشكل نهائي بحيث لا يتم البناء مستقبلا الا من خلال أسس وقواعد ثابتة وفق رؤية وتخطيط علمي ممنهج، وهذه هي مصر الحديثة التي نأملها جميعا ، وسوف يكتب التاريخ أن هذه الحكومة هي من تصدت لهذا الملف الشائك رغم كل التحديات.
واليوم أصدر الرئيس السيسي قرارا ينحاز به لمحدودي الدخل ويقرر خفض قيمة متر التصالح بجميع العزب والقرى والنجوع إلى 50 جنيها، مما أثلج صدور أهالينا البسطاء، وأكد على أن الدولة تسعى لإصلاح الأخطاء الممتدة عبر عقود طويلة.